الضفة الغربية- مقاومة ضرورية لدعم غزة وإفشال مخططات الاحتلال

المؤلف: د. أحمد العطاونة10.12.2025
الضفة الغربية- مقاومة ضرورية لدعم غزة وإفشال مخططات الاحتلال

شهدت الضفة الغربية تصعيداً ملحوظاً في المقاومة خلال الأشهر الأخيرة، حيث بدت فصائل المقاومة المسلحة في ازدياد مستمر من حيث العدد والعتاد والقدرات القتالية، لا سيما بعد انخراط محافظة الخليل، ذات الثقل السكاني والتراث التاريخي العريق في النضال والمقاومة، في هذه المواجهات. بالتزامن مع ذلك، كثفت القوات الإسرائيلية اعتداءاتها الشرسة على المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، وتعمدت إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية، خاصة في مدينتي طولكرم وجنين.

أثارت هذه التطورات نقاشاً واسعاً بين العديد من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين حول تأثير هذا التصعيد على الوضع في الضفة الغربية وعلى مسار الحرب الدائرة في قطاع غزة، وحول مدى فعالية العمليات المسلحة في الضفة في ردع العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع، وإمكانية استغلال جيش الاحتلال لهذه العمليات لتبرير ارتكاب المزيد من الجرائم المروعة، على غرار ما حدث في غزة من تدمير ممنهج وقتل وتخريب.

مع أن بعض الداعين لهذا الرأي هم من المؤيدين والمساندين للمقاومة ودورها البطولي في قطاع غزة، إلا أن هذا التوجه يعني ضمناً ترك غزة وحيدة في مواجهة آلة الحرب الصهيونية الغاشمة، والتخلي عن جزء عزيز من الشعب الفلسطيني، المحكوم عليه بالتجزئة القسرية من قبل الاحتلال، ليواجه مصيره وحيداً ويعاني ويصمد بمفرده، بينما تكتفي المكونات الأخرى في المناطق الجغرافية المختلفة بأدوار هامشية ومحدودة لا تؤثر بشكل جوهري على مسار المعركة، وتقتصر على التعبير عن الإشادة بصمود وبطولة غزة وأهلها، والتعبير عن مدى حبهم وتقديرهم وإعجابهم بهذه الفئة الصابرة الصامدة، مستذكرين ما قاله الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش: "مت كي تعرف كم نحبك".

ضرر ذو طبيعة إستراتيجية

يحمل هذا الطرح أو الموقف في طياته مخاطر وأضراراً إستراتيجية جسيمة تهدد القضية والشعب الفلسطيني. فماذا يعني التخلي عن مشاركة الضفة الغربية في المواجهة المفتوحة مع الاحتلال بذريعة الحفاظ على السلامة وتفويت الفرصة التاريخية؟

  • أولاً: إنه يعني تكريس التجزئة والانقسام بين مكونات الشعب الفلسطيني الواحد، والاستسلام التام لسياسات الاحتلال البغيضة وما فرضه من وقائع مؤلمة منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا، حيث فرض على الفلسطينيين العيش في تجمعات سكانية متباعدة ومختلفة: (فلسطينيي 48، الضفة الغربية المحتلة، قطاع غزة المحاصر، الشتات المرير)، وعمل لعقود طويلة بكل ما أوتي من قوة على خلق ظروف معيشية متناقضة ومتباينة بين هذه التجمعات في محاولة يائسة لفصلها عن بعضها البعض سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.

نجاح الاحتلال في الانفراد بكل تجمع فلسطيني على حدة، يعني الاستسلام الكامل لهذه السياسة الخبيثة والقضاء التام على فكرة الوحدة الوطنية ووحدة الشعب الفلسطيني ووحدة قضيته العادلة.

  • ثانياً: إنه يمثل تأكيداً جديداً، وفي منعطف تاريخي بالغ الخطورة، على الفشل القيادي الفلسطيني المزمن والمرتبط بعدم القدرة على مواجهة الاحتلال بشكل موحد ومنسق، وتنظيم التجمعات السكانية الفلسطينية المختلفة للانخراط بشكل جماعي في مقاومة مؤثرة وفاعلة ضد الاحتلال، وهو ما حدث في محطات تاريخية مفصلية، مثل: 1982 و1987 و2000 والحروب المتتالية على غزة، وآخرها معركة "طوفان الأقصى" البطولية.
  • ثالثاً: إنه يؤدي إلى خلق شرخ عميق وغائر يصعب التئامه بين الفلسطينيين في قطاع غزة وبقية المناطق الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية. فكيف يمكن تبرير الدعوة إلى عدم مواجهة الاحتلال في الضفة بحجة الحفاظ على الذات، وعدم إعطاء مبررات لحكومة الاحتلال المتطرفة لتخريب الضفة الغربية، وكأنها رسالة مشؤومة يراد لها أن تصل إلى الفلسطيني في غزة، مفادها أنك وحيد لا ناصر ولا معين لك، وأنك وحدك من يتحمل تبعات المجازر والقتل والتدمير؟

وهو ما يجب العمل بعكسه تماماً، لما له من تداعيات خطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية، وعلى مستقبل الفلسطينيين ووحدتهم ووحدة قضيتهم العادلة. فكيف يمكن أن يتماشى ذلك مع الشعار الخالد: "شعب واحد، أرض واحدة، وقضية واحدة"؟ وأي ثمن يمكن أن تدفعه الضفة يمكن تعويضه في إطار الوحدة الوطنية ووحدة المصير والمشروع الوطني. وإن أي انقسام عميق قد ينجم عن هذا الموقف سيؤدي إلى إلحاق ضرر بالغ بالفلسطينيين وقضيتهم، وسيخدم المشروع الاستعماري، وقد يحتاج إلى عقود طويلة لتجاوزه.

  • رابعاً: إن سياسات الاحتلال المستمرة في الضفة الغربية، والتي تهدف إلى تهجير السكان الأصليين والضم التدريجي للأراضي، وتقويض أية فرصة واقعية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، تُطبق بهدوء وبشكل يومي. وإن هدوء الضفة الغربية وغياب المقاومة المسلحة الفاعلة لسنوات طويلة لم يكونا عائقاً أمام الاحتلال وسياساته التوسعية، بل خلقا بيئة سياسية وأمنية مثالية للاحتلال لتطبيق مخططاته الشيطانية. وأكبر دليل على ذلك هو الزيادة المطردة في أعداد المستوطنين والمستوطنات والبؤر الاستيطانية العشوائية والحواجز العسكرية ومصادرة الأراضي الزراعية في الضفة. وإن مواجهة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة قد تؤدي إلى إعاقة هذه السياسات وإفشالها، بينما الهدوء بالتأكيد لن يحقق ذلك. إلا إذا كان البعض يرى أن تضم الضفة الغربية وتهجير أهلها وفرض حل "الوطن البديل" على الفلسطينيين يجب أن يتم بهدوء ودون مقاومة أو مواجهة.
  • خامساً: إن منطلقات هذه الحرب وأهدافها وطنية بامتياز، وهي ذات صلة مباشرة بقضايا جوهرية مرتبطة بالضفة الغربية ومستقبلها. فالقدس الشريف والاستيطان المتفشي في الضفة الغربية وما يزيد على 90% من الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال الظالم قبل الحرب هم من أبناء الضفة الغربية وشبابها. وعليه، فإن هذه المعركة هي معركة الضفة الغربية بالدرجة الأولى، ولا يوجد أهداف محددة لها تخص قطاع غزة وسكانه. ولو أرادت المقاومة الباسلة في غزة البحث عن الخلاص الجزئي "الفردي" لقبلت بعض ما عُرض عليها من حلول جزئية. هذه الحقيقة الساطعة تضع على كاهل الضفة الغربية مسؤولية تاريخية خاصة في هذه المعركة المصيرية.

دور حاسم وإن تأخر

يذهب بعض الداعين إلى تحييد الضفة في هذه المرحلة إلى القول بأنهم يدركون تمام الإدراك المخاطر الجسيمة التي تتعرض لها الضفة الغربية والقضية الفلسطينية بشكل عام، وضرورة أن يكون للضفة دور فاعل في مواجهة الاحتلال الغاشم، لكنهم يرون أن المقاومة المسلحة في الوقت الراهن ليست هي الأداة الأنسب لتحقيق هذا الهدف النبيل.

كما يزعمون أن تأخر الضفة في الانخراط في هذه المواجهة قد قلّل من أهمية وفاعلية دورها المحتمل، حيث إن المذبحة المروعة وعمليات التدمير الهائلة التي طالت غزة قد وقعت بالفعل، ولن يغير تطور الفعل المقاوم في الضفة الغربية الواقع المأساوي القائم أو يساهم في التأثير على نتائجه. وهو رأي يفتقر إلى الدقة والموضوعية ويجانب المنطق السليم، وما الاهتمام الكبير بسلوك الضفة الغربية من قبل مختلف الأطراف المعنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأجهزة أمن الاحتلال الصهيوني، إلا دليل قاطع على مدى أهمية وتأثير الضفة الغربية على مجريات الحرب الدائرة وبيئتها السياسية الملتهبة.

لقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة منذ بداية الحرب على ضمان بقاء الوضع هادئاً ومستقراً في الضفة الغربية، وهو ما صرح به العديد من المسؤولين الأمريكيين مراراً وتكراراً. وقد بلغ الاهتمام الأمريكي بهذا الأمر حداً دفعها إلى فرض عقوبات على بعض المستوطنين المتطرفين الذين يعملون على تأجيج الأوضاع المتوترة من خلال الاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين.

كما حذر العديد من القيادات العسكرية والسياسية والخبراء الإسرائيليين من مغبة انفجار الأوضاع في الضفة الغربية وما قد يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على أمن الاحتلال الهش وعلى مسار حربه الشعواء على غزة. وعليه، فإن الراعي الأمريكي والخبراء الاستراتيجيين في الكيان الصهيوني يدركون تماماً أهمية وفاعلية الدور الذي يمكن أن تلعبه الضفة الغربية، وما له من انعكاسات حاسمة على حرب الإبادة الجماعية في غزة والقضية الفلسطينية برمتها، والتي يمكننا إيجاز بعضها فيما يلي:

  • أولاً: الضغط المتزايد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية المترنحة، نظراً لما تتمتع به الضفة الغربية من موقع استراتيجي فريد من نوعه "جغرافياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً". وهو العامل الأهم الذي يمكن أن يساهم بشكل فعال في تغيير موقف الحكومة المتطرفة في تل أبيب وقد يفضي في نهاية المطاف إلى إنهاء الحرب العدوانية، نظراً لأن البيئة السياسية والعسكرية الإقليمية والدولية عاجزة عن ممارسة ضغوط حقيقية على نتنياهو وحكومته الفاشية.
  • ثانياً: إشغال الجيش الإسرائيلي وإرهاقه واستنزاف طاقاته والتأثير السلبي على معنوياته المتدهورة. إذ سيضطر جيش الاحتلال المهزوم لنشر جزء كبير من قواته في الضفة الغربية التي تبلغ مساحتها 16 ضعف مساحة قطاع غزة المحاصر، وينتشر فيها ما يقارب المليون مستوطن صهيوني حاقد. وإذا ما أضيف هذا الضغط المتصاعد إلى التحدي المستمر على الجبهة الشمالية، فسيكون له أثر واضح وملموس على مسار الحرب في غزة، وسيدفع بقوة باتجاه لجم العدوان الهمجي ووقف الإبادة الجماعية المتواصلة.
  • ثالثاً: لم يفت الأوان بعد على مشاركة الضفة الغربية الفاعلة، لأن جيش الاحتلال المنهار، على الرغم من مرور أكثر من 11 شهراً على الحرب وما أحدثه من تدمير شامل وخراب لا يوصف، لم يتمكن حتى الآن من السيطرة الكاملة على قطاع غزة الصامد، ولا يزال يحتاج إلى عمليات عسكرية واسعة النطاق لاقتحام العديد من أحيائها ومخيماتها. ويتحدث قادة الاحتلال باستمرار عن إعادة المقاومة الفلسطينية بناء قدراتها العسكرية في المناطق التي ينسحبون منها. وهو بالتالي لا يزال بعيداً كل البعد عن حسم المعركة أو إنهائها وفقاً لأهوائه ورغباته، ما يعني أن دعم غزة ومقاومتها الباسلة وإسنادها بكل السبل الممكنة هو ضرورة وطنية وأخلاقية وإنسانية مُلحة.
  • رابعاً: الضفة الغربية، بمقاومتها الشرسة، تدافع عن نفسها وعن مستقبلها وعن مشروعها الوطني التحرري، وتقدم كل ما يتوجب عليها تقديمه في هذا المشروع المصيري. ولا ينبغي قراءة دورها النضالي فقط في إطار مساندة غزة العزة، بل كعمل ضروري ومُلِح ومشروع لإحباط المخططات الخبيثة التي تضمرها هذه الحكومة المتطرفة تجاه الضفة الغربية والشعب الفلسطيني ومستقبله الوطني والسياسي. لا سيما أن تبني حكومة الاحتلال لخطة "حسم الصراع" التي تهدد الوجود الفلسطيني ومستقبله السياسي برمته بات واضحاً وجلياً، ومواجهة هذه الخطة الشيطانية هو واجب وطني مقدس يقع على عاتق كل الفلسطينيين أينما وجدوا، حتى لا ينطبق عليهم المثل العربي الشهير "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".

ختامًا

كل ما ذكرناه آنفاً لا يعني بأي حال من الأحوال عدم تفهم التخوفات المشروعة المرتبطة بمواجهة مفتوحة مع احتلال غاشم مدعوم بقوة من قوى الاستعمار والغطرسة الغربية، خاصة في ظل بيئة سياسية فلسطينية هشة وضعيفة، ناجمة في الأساس عن غياب قيادة فلسطينية موحدة وممثلة للشعب الفلسطيني وطموحاته المشروعة وقادرة على قيادته بحكمة واقتدار في هذه المرحلة التاريخية الحرجة، وكذلك انعكاس الانقسام الداخلي المرير على قدرة الفلسطينيين على تحقيق أي إنجاز حقيقي، وغياب الظهير العربي والإسلامي الداعم، والانحياز الغربي الأعمى للاحتلال، والشراكة الأمريكية الكاملة في الحرب العدوانية.

لكن هذه العوامل السلبية حاضرة، وبكل أسف وأسى، منذ أمد بعيد، وإن انتظار تغيير جوهري فيها لوقف حرب الإبادة الجماعية ولجم العدوان الغاشم لا يبدو منطقياً أو عملياً على الإطلاق. ولا بد لكل فرد أو مجموعة أو تجمع فلسطيني أن يقوم بكل ما يستطيع من جهد ممكن للدفاع عن نفسه وعن قضيته العادلة وعن مستقبله المشرق، وأن يساهم بكل ما أوتي من قوة في لجم العدوان ووضع حد للإبادة الجماعية المتواصلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة